سورة المجادلة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المجادلة)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا إِذا ناجيتم الرسولَ} أي: إذا أردتم مناجاته في بعض شؤونكم المهمة، {فقدِّموا بين يدي نجواكم} أي: قبل نجواكم {صدقة} وهي استعارة ممن له يدان، كقول عمر رضي الله عنه: من أفضل ما أوتيت العرب الشِعر، يقدّمه الرجل أما حاجته، فيستمطر به الكريم، ويستنزل به اللئيم يريد: قبل حاجته. وفي هذا الأمر تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتفاع الفقراء، والزجر عن الإفراط في مناجاته وسؤاله عليه الصلاة والسلام، والتمييز بين المخلِص والمنافق، وبين مُحب الآخرة ومُحب الدنيا، وهل الأمر للندب، أو للوجوب لكنه نسخ بقوله: {أأشفقتم..} الخ؟ وعن عليّ رضي الله عنه: إنَّ في كتاب الله آية ما عمل بها أحدٌ غيري، كان لي دينار فصرّفته فكنت إذا ناجيته صلى الله عليه وسلم تصدّقت به. وقال أيضاً: أنا كنت سبب الرخصة والتخفيف عن المسلمين، قال رضي الله عنه: فَهِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنّ هذه العبادة قد شقّت على الناس، فقال: «يا عليّ كم ترى حدّ هذه الصدقة؟ أتراه ديناراً؟» قلت: لا، قال: «فنصف دينار»؟ قلت: لا، قال: «فكم»؟ قلت: حبة من شعير، قال: «إنك لزهيد» فأنزل الله الرخصة. قال الفخر: قوله صلى الله عليه وسلم لعليّ: «إنك لزهيد» معناه: إنك قليل المال، فقدّرتَ على حسب حالك. وفي رواية: «شعيرة من ذهب»، فقال: «إنك لزهيد»، أي: مُصعِّر مقلِّل للدنيا. قاله في القوت.
{ذلك} التقديم للصدقة {خير لكم} في دينكم {وأطهرُ} لنفوسكم من رذيلة البُخل، ولأنَّ الصدقة طُهرة. {فإِن لم تجدوا} ما تتصدقون به {فإِنَّ الله غفور رحيم} في ترخيص المناجاة من غير صدقة. قيل: كان ذلك عشر ليال، ثم نُسِخَ، وقيل: ما كان إلاَّ ساعة من نهار. وعن عليّ- كرّم الله وجهه- أنه قال: سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن عشر مسائل، فأجابني عنها، ثم نزل نسخ الصدقة، قلت: يا رسول الله؛ ما الوفاء؟ قال: «التوحيد وشهادة أن لا إله إلاّ الله» قلت: وما الفساد؟ قال: «الكفر والشرك بالله» قلت: وما الحق؟ قال: «الإسلام، والقرآن والولاية إذا انتهات إليك» قلت: وما الحيلة؟ قال: «ترك الحيلة»، قلت: وما عَلَيَّ؟ قال: «طاعة الله وطاعة رسوله»، قلت: وكيف أدعو الله تعالى؟ قال: «بالصدق واليقين» قلت: وماذا سأل الله؟ قال: «العافية» قلت: وما أصنع لنجاة نفسي؟ قال: «كلْ حلالاً، وقل صدقاً» قلت: وما السرور؟ قال: «الجنة» قلت: وما الراحة؟ قال: «لقاء الله» فلما فرغت منها نزل نسخ الصدقة.
{أأشفقتم أن تُقَدِّموا بين يَدَيْ نجواكم صدقاتٍ} أي: أَخِفْتُم الفقرَ مِن تقديم الصدقات، أو: أَخِفْتُم من هذا الأمر لِما فيه من الإنفاق الذي تكرهه النفوس، {فإِذ لم تفعلوا} ما أُمرتم به وشقّ عليكم، {وتاب اللهُ عليكم} أي: خفّف عنكم، وأزال عنكم المؤاخذة بترك تقديم الصدقة على المناجاة، كما أزال المؤاخذة بالذنب عن التائب عنه، {فأقيموا الصلاةَ وآتُوا الزكاة} أي: فإذا فرَّطتم فيما أُمرتم به من تقديم الصدقات، فتداركوه بالمثابرة على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، {وأطيعوا اللهَ ورسولَه} في سائر الأوامر، فإنَّ القيام بها كالجابر لِما وقع في ذلك من التفريط، {واللهُ خبير بما تعملون} ظاهراً وباطناً، وهو وعدٌ ووعيد.
الإشارة: إذا أردتم مناجاة المشايخ في زيارتكم، فقدِّموا بين يدي نجواكم صدقة، تُدفع للشيخ، أو لأهل داره، فإنها مفتاح لفيض المواهب، مثالها كالدلو، لا يمكن رفع الماء إلاَّ به، ذلك خير لكم، وأطهر لقلوبكم من رذيلة من البخل، فإن لم تجدوا شيئاً فإن الله غفور رحيم. أأشفقتم أن تُقدِّموا بين يدي نجواكم صدقات؛ لِثَقَلِ ذلك على النفس؟ فإذ لم تفعلوا وزُرتم بلا صدقة، وقد تاب الله عليكم من هذا التفريط، فأقيموا صلاة القلوب، وهو التعظيم، ودوام العكوف في حضرة علاّم الغيوب، وآتوا زكاة أبدانكم، بإجهادها في خدمة المشايخ والإخوان، وأطيعوا الله ورسوله وخلفاءه فيما يأمرونكم به وينهونكم عنه، {والله خبير بما تعملون}.


يقول الحق جلّ جلاله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِين تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم} وهم اليهود، لقوله: {مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60]. والغضب في حقه تعالى: إرادة الانتقام. كان المنافقون يتولّون اليهود، وينقلون إليهم أسرار المؤمنين، ففضحهم الله. ثم قال تعالى: {ما هم منكم} يا معشر المسلمين {ولا منهم} أي: من اليهود، بل كانوا {مُّذبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لآَ إِلَى هَؤُلأَءِ إِلَى هَؤُلآَءِ} [النساء: 143]. {ويحلفون على الكذب} أي: يقولون: والله إنّ لمسلمون لا منافقون، {وهم يعلمون} أنهم كاذبون منافقون، {أعدَّ اللهُ لهم عذاباً شديداً} نوعاً من العذاب متفاقماً، {إِنهم ساء ما كانوا يعملون} فيما مضى من الزمان، كانوا مُصرِّين على سوء العمل، وتمرّنوا عليه، أو: هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة.
{اتخَذُوا أَيمانهم} الكاذبة {جُنَّةً} وقايةً دون أموالهم ودمائهم، {فصَدُّوا} الناسَ في خلال أمنهم وسلامتهم، أو: فصدُّوا بأنفسهم {عن سبيل الله} عن طاعته والإيمان به، {فلهم عذابٌ مُهين} يُهينهم ويُخزيهم، وأعدّ لهم العذاب المخزي لكفرهم وصدهم، كقوله: {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الَعَذَابِ} [النحل: 88]. {لن تُغني عنهم أموالُهم ولا أولادُهم من الله} من عذاب الله {شيئاً} قليلاً من الإغناء، أي: ما يخافون عليه من الأموال والأولاد فيحلفون لأجله، لا ينفعهم عند الله. رُوي أنَّ رجلاً منهم قال: لنُنصرنّ يوم القيامة بأموالنا وأنفسنا وأولادنا. فنزلت. {أولئك} الموصوفون بما ذكر من القبائح {أصحابُ النار} ملازموها {هم فيها خالدون}.
{يومَ يبعثهم اللهُ جميعاً فيحلِفون له} أي: لله تعالى في الآخرة أنهم كانوا مُخلِصين غير منافقين، {كما يحلفون لكم} في الدنيا على ذلك، {ويَحْسَبون أنهم} في الدنيا {على شيءٍ} من النفع، أو: يحسبون في الآخرة أنهم على شيءٍ من النفع، مِن جلب منفعة أو دفع مضرة، كما كانوا في الدنيا، حيث كانوا يدفعون بها عن أزواجهم وأموالهم، {ألا إِنهم هم الكاذبون} البالغون في الكذب إلى غايةٍ لا مطمح وراءها، حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علاّم الغيوب.
{استحوذَ عليهم الشيطانُ} استولى عليهم ومَلَكَهم، {فأنساهم ذكرَ الله} بحيث لم يذكروه بقلوبهم ولا بألسنتهم، {أولئك حزبُ الشيطان} أي: جنوده وأتباعه، {ألا إِنّ حزبَ الشيطان هم الخاسرون} أي: الموصوفون بالخسران الذي لا غياية وراءه، حيث فوّتوا على أنفسهم النعيم المقيم، وأخذوا بدله العذاب الأليم، وفي تصدير الجمة بحرفي التنبيه والتحقيق، وإظهار الشيطان معاً في موضع الإضمارِ، وتوسيط ضمير الفصل، من فنون التأكيد ما لا يخفى.
الإشارة: منافقون الصوفية هم الذين يُقرُّون أهلَ الظاهر وينصرونهم، ويُنكرون على أهل الباطن، فإذا لقوهم أظهروا لهم المودّة والوفاق، وادَّعوا أنهم منهم، فهم مذبذبون بين ذلك، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، ليسوا من أهل الظاهر المحض، ولا من أهل الباطن، لعدم تحققهم به، تجر الآية ذيلَها عليهم.
والعذاب المعدّ لهم غم الحجاب، وتخلُّفهم عن درجات المقربين. قوله تعالى: {اتخذوا أَيمانهم جُنة} قال القشيري: مَن استتر بحُجة طاعته لأجل دنياه؛ انكشف لسهام التقدير من حيث لا يشعر، ثم لا دينُه يبقى، ولا دنياه تَسْلَم. قال تعالى: {لن تُغني عنهم أموالُهم ولا أولادهم من الله شيئاً} الآية. اهـ. يوم يبعثهم الله جميعاً فيتحاشون إلى المقربين، ويحلفون بلسان حالهم: أنهم كانوا منهم، كما يحلفون اليوم، ويظنون أنهم من أهل الباطن، ويحسبون أنهم على شيء، فيبدوا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وذلك لعدم صُحبتهم للعارفين المخلِصين، حصل لهم الغلظ، فوقفوا مع حُسبانهم الضال، ولو دامت صُحبتُهم لأهل التوحيد الخاص لتنبّهوا لغلطهم. استحوذ عليهم الشيطانُ، فزيّن لهم الوقوفَ مع ما هم فيه، فأنساهم ذكرَ العيان، فكانوا من حزب الشيطان في الجملة، بالنسبة إلى مَن فوقهم. قال شاة الكرماني: علامة استحواذ الشيطان على العبد: أن يشغله بعمارة ظاهره، من المأكل والملبس، ويشغل قلبه عن التفكُّر في آلاء الله ونعمائه، والقيام بشكرها، ويشغل لسانه عن ذكر ربه، بالكذب والغيبة والبهتان، ويشغل قلبه عن التفكُّر والمراقبة بتدبير الدنيا وجمعها. اهـ.


يقول الحق جلّ جلاله: {إِنّ الذين يُحادون اللهَ ورسولَه} أي: يخالفونهما، ويجعلون بينهم وبينهما حدّاً، وهم حزب الشيطان المتقدم، {أولئك في} جملة {الأذَلِّينَ} لا ترى أحداً أذلّ منهم من الأولين والآخرين؛ لأنّ ذِلة أحد المتخاصمين على قدر عزة الآخر، وحيث كانت عزة الله غير متناهية كانت ذلة مَن يُحاده كذلك. {كتب اللهُ} في اللوح وقضاه، وحيث جرى مجرى القسم أجيب بما يُجاب به، فقال: {لأغْلِبنَّ أنا ورسلي} بالحجة والسيف، أو بأحدهما، وهو تعليل لِما قبله من كون مَن حاد الله في الأَذلِّين. {إِنَّ الله قويٌّ} على نُصرة أوليائه، {عزيزٌ} لا يمتنع عليه ما يريد.
الإشارة: كل مَن يُعادي أهلَ الله مخذول، عاقبته الذل في الدنيا والآخرة، {كتب الله لأغْلِبَنَّ أنا ورسلي} وخلفاؤهم من أولئك، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، إلاَّ مَن تعدّى منهم طورَه، كمَن تعرّض للظهور، وهو من أهل الباطن، فإنَّ القدرة تخدمه وتؤدبه؛ لأنّ الباطن لا ينقلب ظاهراً، ولا عكسه. والله تعالى أعلم.

1 | 2 | 3 | 4